المفاهيم النقدية والمصطلحات الأدبية في الكتاب
إن أي خطاب نقدي، يتأسس من مفاهيم نظرية ولغة واصفة، فهو لغة تتحدث عن لغة، ورصد المفاهيم والمفاهيم والمصطلحات النقدية هو الفيصل في تقييم الخطاب النقدي، وإبراز فعاليته الإجرائية أو عدمها. فكيف اشتغلت هذه المفاهيم والمصطلحات خلال القراءة التي أنجزها طه حسين حول المتنبي ؟ وما هي المفاهيم والمصطلحات البارزة في الكتاب ؟
1- الأدب باعتباره ظاهرة اجتماعية
انطلاقا من المفهوم الاجتماعي للظاهرة الأدبية، تتبع طه حسين حياة المتنبي من خلال شعره محاولا إبراز التأثير الذي أحدثته البيئة الاجتماعية فيه. ولقد استخلصنا التحولات التي عرفها هذا الشعر عبر انتقاله في البيئات المختلفة، وأوضحنا أن القيمة الجمالية لشعر المتنبي تأسست وفق منظور تطوري تحكمت فيه البيئة الاجتماعية بالخصوص، ومن ثم فإننا نشكك في صحة ما ذهب إليه محمد خلف الله، من أن طه حسين استخدم المنهج النفسي في قراءته للمتنبي حيث قال " ويصل هذا الاتجاه النفساني ذروته عنده في بحثه للمتنبي وأبي العلاء في سجنه".
إذ تتبعنا التطور التاريخي لشعر المتنبي من خلال الكتاب فلم نجد طه حسين يصدر عن نظرية نفسية متماسكة، وإنما كان يشير بين الفينة والأخرى إلى الحالة النفسية للشاعر وطبيعة شخصيته وعلاقتهما بشعره. وإذ كان يشير إلى هذه النفسية كان يعتمد على الأطر الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية التي تشكلت داخلها هذه النفسية.
إن الفرد عنده يعتبر ظاهرة اجتماعية، يقول " وإذن فليس من البحث القيم العلمي في شيء أن تجعل الفرد كل شيء وتمحو الجماعة التي أنشأته وكونته محوا، إنما السبيل أن تقدر الجماعة وأن تقدر الفرد، وأن تجتهد ما استطاعت في تحديد الصلة بينهما، وفي تعين ما لكل منها من أثر في الآداب والآراء الفلسفية والنظم الاجتماعية والسياسية المختلفة.
ولهذا، فإن طه حسين يعطي الأولوية للعوامل الخارجية في تكوين نفسية الفرد، مخالفا ما ذهب إليه المحللون النفسانيون الذين يعتبرون الذات بنية مغلقة محكومة بعقد نفسية داخلية.
وإذا ما كان أغلب الدارسين يجمعون على أن طه حسين هو أول من أدخل على النفس في الآداب العربي، فإننا نذهب إلى أنه لم يعن بالمنهج النفسي كطريقة منهجية، ولم يدخل نظرية متماسكة من نظريات علم النفس بل كان يلمح ببعض المصطلحات المنتزعة، من حقل علم النفس كالشخصية مثلا. ولكي لا نصدر أحكاما جزافية لابد وأن نقف عند الشروط التاريخية التي بلورت اللغة الواصفة لديه وجعلته يستدعي أحيانا بعض الاصطلاحات ذات الارتباط بالحقل النفسي.
2- مفهوم البحث عن الشخصية
إن مفهوم الشخصية يعد ركيزة أساسية من التاريخ الأدبي عند طه حسين. إذ رأيناه في المسيرة الشعرية للمتنبي يركز بصفة خاصة على الشعر الذي برزت فيه شخصية المتنبي، وكان يحدد القيمة الجمالية لهذا الشعر انطلاقا من ظهور الشخصية في الشعر.
ولا نغالي إذا قلنا بأن طه حسين قسم شعر المتنبي إلى قسمين : الأول عبارة عن محاكاة لشعر القدماء. والثاني هو الذي ظهرت فيه شخصية الشاعر، فأصبح شعره مرآة لنفسه ومصورا لانفعالاته وعواطفه. من هنا كانت له القدرة في تحريك القارئ وأثارته لما فيه من صدق. فمفهوم التمثيل والصدق العاطفي هما اللذان يحددان قيمة العمل الأدبي عند طه حسين.
إن التوجه نحو البحث عن الشخصية أملته مجموعة من الاعتبارات منها الاستغناء عن التحليل البلاغي الذي كان مهيمنا على النقد قبل بداية عصر النهضة، حيث انحسرت سلطة النقد القديم ولم تعد أدواته تستطيع أن تواكب المناهج الجديدة، فلم " يكن حظ البلاغة عند طه حسين والعقاد ومعاصريهم بأحسن من حظها عند أبناء القرن التاسع عشر الأوربي، وهو قرن الرومانتيكية والواقعية، فتوارت من معجمهم، وكأنهم رأوا في شخصية الشاعر وأسلوبه ما يغنيهم عن تكلف البحث في التشبيه والكناية والاستعارة، وإذا عرضوا لذلك عرضوا له بالقدر الذي تقتضيه دراسة الأسلوب .
بالإضافة إلى أن هذا الفهم الجديد في النقد الذي ينتسب إلى سانت بوف، هذا الأخير يعتبر رافدا مهما في النقد عند طه حسين، في بحثه عن شخصيات الأدباء وربط إبداعهم بشخصياتهم وأمزجتهم، وهذا الفهم يرتبط أساسا بنظرية التعبير الرومانسية التي رأت أن الإبداع هو مرآة لنفس صاحبه، وستجد أن هناك مبررات موضوعية حدت بطه حسين وغيره من النقاد المجالين له إلى أن يذهبوا إلى أن الأدب مرآة لشخصية صاحبه، ومن تم فالنقد في هذه المرحلة يعلي من شأن الفرد والذات، هذه الذات هي الذات الليبرالية المتحررة، ومن هذا المنظور الليبرالي فالأدب يتأسس في التجاوز، تجاوز البنيات التقليدية الموروثة، وإبراز سلطة الفرد.
إن هذا التوجه نحو الدراسة النفسية للآداب والشخصيات تجد مبررها في المرحلة التاريخية التي امتازت من الناحية الاجتماعية ببروز الطبقة الوسطى، ومن الناحية الفكرية بظهور الاتجاه الليبرالي، وسياسيا بتبني شعارات الحرية والديمقراطية وأدبيا بتبني الاتجاه الذاتي في الإنتاج الأدبي والممارسة النقدية، إن هذا التوجه نحو الشخصية يرتبط بالتحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية التي جسدتها ثورة 1919. فإذا كانت هذه هي المبررات الموضوعية لبروز هذا المفهوم في نقد هذه المرحلة، فما هي انعكاساته على فهم الشعر وتقويمه ؟.
إن البحث عن الشخصية يعني تجريد صورة نفسية من خلال الشعر، هذه العملية محفوفة بعدة مزالق، منها أنها تغيب البحث في الشعر باعتباره لغة وتخييلا وصناعة، وتؤدي أيضا بالناقد إلى تسطيح الدلالة المجازية للشعر، وذلك ما لمسناه عن كثب في قراءة طه حسين لبعض أشعار المتنبي. إذ كان يعد إلى المعنى الظاهر من النص ، دون أن يبحث عن العلاقات الداخلية والضمنية للغة النص.
ومن تم يتحول عمله إلى صانع لسير وقارئ شخصيات يبحث عن تمثال للشاعر مدثر بالصدق العاطفي، ومفهوم الصدق يؤكد مفهوم المحاكاة، ويرتبط بالقيم الأخلاقية المناقضة للكذب، لذلك وجدنا طه حسين يكرر في كتابته مصطلحي الصدق والكذب، وهما مفهومان موروثان من النقد الكلاسيكي القديم، وإن كان بعض النقاد القدامى قد حسموا في هذه الثنائية معتبرين الأدب صناعة لا علاقة لها بالصدق ولا الكذب. ومن تم فإن " طه حسين.. في كل هذه الأحكام المقترنة بالصدق، يبحث عن صفات مزاجية أو أخلاقية لا علاقة لها بالشعر، وبقدر ما تنطوي هذه الصفات على تعميم لا يميز بين الشعراء بل يحشر شخصيات متباينة في سلة الصدق الضيقة، تقودنا هذه الصفات إلى خارج الشعر، فنعرف الرجال ولا نعرف الخصائص الفارقة لما انتحوه.
نستنتج من هذا النقاش أن طه حسين كان مولعا بالشخوص دون النصوص، ولم يقدم منهجا يتعامل مع اللغة الشعرية. إذ كان همه هو البحث عن الملاءمة بين الشاعر وإنتاجه، باحثا عن مرآة صافية تنعكس فيها دواخل الشاعر، فبقدر ما تكون المرآة مجلوة تكون القيمة الشعرية، أما إذا حدث العكس ولم نستطع أن نمر من الشعر إلى الشخصية، فالحكم سيكون هو إقصاء الشاعر من مملكة الشعر، فمنهج طه حسين في تاريخ الأدب منهج خارجي يبحث عن قيمة الشعر من خارج الشعر وليس من داخله، وبذلك نكون إزاء منهج لازال لم يمتلك موضوعه.
3- انطباعية اللغة النقدية :
لقد كان من نتائج القراءة التاريخية للمتنبي أن اختزل نصه الشعري ولم ير فيه جديدا، اللهم إلا قيمته التاريخية، فقد كان طه حسين يمر بالقصيدة ولا يستوقفه منها سوى البيت أو البيتين اللذان يصوران شيئا من حياة المتنبي، أو يشيران إلى مسألة تاريخية. ولما يريد تقييم الشعر من الناحية الفنية يستخدم لغة انطباعية بعيدة كل البعد عن التحليل والتعليل. فقد وقفنا على مجموعة من الأحكام الذوقية التأثرية، حيث يكثر من صيغ التفضيل والأفعال الدالة على الإحساس والوجدان. فهو يعتمد على العواطف الخاصة به ، باعتبارها أساسا جذريا في العملية النقدية.
رأيناه أكثر من مرة يتعاطف مع الشاعر تعاطفا وديا لا نقديا. ومن تم كان يخلق مع الشاعر حوارا أطلق عليه صلاح فضل " حوار التماهي ".
حيث يمتزج الناقد مع الشعر ، ولا يهمه منه إلا تلك اللحظات التي ينسيه فيها ذاته، ويصرح بذلك بطريقة جلية حين قال : " إنما أقرأ الأدب بقلبي وذوقي ، وبما أتيح لي من طبع يحب الجمال ويطمح إلى مثله الأعلى، والكاتب المجيد عندي هو الذي لا أكاد أصحبه لحظة حتى ينسيني نفسي، ويشغلني عن التفكير ويصرفني عن التحليل والتعليل والتأويل " .
إن هذا المسلك النقدي انطباعي ، لا يبحث فيه الناقد عن عوالم النص ، وإنما يبحث عن ذاته ، مغيبا بذلك العلاقة الجدلية بين القارئ والنص، فالناقد الانطباعي لا يحدثنا عن العمل الأدبي الذي يقرأ في ذاته ، وإنما يحدثنا عن العواطف والانفعالات التي يخلفها هذا العمل على صفحة إحساسه. فقراءته تتصل بمعاناته هو ولا تتصل بمعاناة النص.
من هذه الناحية يمكننا الحكم على هذه العملية بأنها تفتقد لأهم مقوم للقراءة النقدية ، وهو الإيمان باستقلالية النص الأدبي عن القارئ، فالنص له كيان موضوعي هذا الكيان يشتغل عبر ذات قارئة.
والأساس في العملية النقدية يرتبط نتاج الدلالة للعمل الأدبي، لا أن يتحول النقد إلى انطباعات يتولد بعضها من بعض تخضع للمزاح النفسي للقارئ. وقد كان هذا الانسياق وراء الأحاسيس سببا في سيادة لغة الكره طيلة الكتاب، فمنذ البداية أعلن طه حسين أن المتنبي ليس من أحب الشعراء لديه.
فعدم الحب ناشئ عن التعامل المزاجي مع الأدب، إذ المتنبي لا يصور عوالم طه حسين، إن لم نقل أن المتنبي قد أكثر في ديوانه شيئا يكرهه طه حسين، وإكثاره من ذكر كلمة العين والعمى، ذهب عبد الغني الملاح إلى التساؤل " هل كانت تثير هذه الأبيات وما شبهها من ذكر العنوان شيئا في نفس طه حسين، أو سببت ردود فعل سلبية تجاه قارئها " وقد أورد تصريحا لعباس خضر عن طبيعة جاء فيه " وهو -كما عرفت أيضا - يغضب جدا ممن يشير إلى كف بصره أو يتصرف معه على أنه كفيف البصر، وقد حدثنا في كتابه (الأيام) أنه كان يحزن ويثور عندما يؤنبه أحد المشايخ في الأزهر بقوله يا أعمى".
وقد يكون وراء كرهه للمتنبي تأثره بمدرسة المرصفيالرافضة لأصحاب البديع والفلسفة من المحدثين، فقد كان يكره طه حسين أبا تمام والمتنبي والمعري، إلا أنه عرض له أن يدرس أبا العلاء، ذلك الذي قد أبغضه ونفر منه فرأى بينه وبين الرجل " تشابها في هذه الآنة المحتومة، لحقت لكليهما في أول صباه.
إن طه حسين يتعامل مع الشعر الذي يلائم نفسه ويصورها، لذلك أبدى حبا شديدا للمعري، وفضله على المتنبي، وقد علمنا أن المعري كان يعتبر المتنبي شاعره المفضل، حيث اعتنى بديوانه فشرحه وانتخبت منه أشعارا في كتابيه " معجز أحمد " و " اللامع العزيزي ".
لقد كان طه حسين يطبق قوله النقاد الانطباعي Jules le maître " من أننا لا نحب المؤلفات الأدبية لأنها جيدة، بل تبدو جيدة لأننا نحبها ". فلقد لخص طه حسين هذا البعد الذاتي عندما أدار حوارا بين كاتب وقارئ.
" قال أحد الكتاب لبعض القراء : أي الكتب أحب إليك ؟
قال : الذي يعرض علي صورة نفسي
قال الكاتب : فإن عرض عليك صورة قبيحة ؟
قال القارئ : إذا أعلم أنه لم يرد تصويري، وإنما أراد تصوير غيري من الناس ؟ ".
إن المتنبي لم يصور نفسية طه حسين لذلك بدأه بالكره وعدم الإيثار، غير أنه تعاطف معه خاصة في الشعر الذي تغنى فيه المتنبي بآلامه، إذ كان يتوقف طه حسين عند هذا الشعر الحزين ويعتبره أروع ما قاله المتنبي، إلى حد أنه كان يتماهى مع هذه الصور الحزينة لأنها تصور نفس طه حسين الحزينة، ولا غرابة في ذلك لان المرحلة التي صاحب فيها المتنبي كان يمر فيها بأزمة فائقة من جراء الضجة التي أقيمت حوله وصراعه الذي أدى إلى أن يفصل من الجامعة، فهذه الأجواء الحزينة، جعلته يفتتن بالشعر الحزين عند المتنبي.
4- التشكك في النظرية المرآوية
تعتبر المرآة مدخلا أساسيا لفهم الخطاب النقدي عند طه حسين، بحيث نجد أن كتاباته النقدية تتواتر فيها موضوعة المرآة بشكل لافت للنظر. وقد يكون لها دور تعويضي يتصل بأثر كف البصر، هذا بالإضافة إلى أن موضوعة المرآة تعد عنصرا تأسيسيا في النقد الكلاسيكي والرومانسي، وهي ليست فكرة جديدة، لقد سبق أن بحث Abrauns في كتابه " المرآة والمصباح "، أثر المرآة في النظرية الكلاسيكية، والمصباح في النظرية الرومانسية. إذ " النظرية الكلاسيكية تجعل من الأدب عاكسا لحقائق نقع خارج ذات الأديب وعقله... أما النظرية الرومانسية فتجعل من الأدب حاملا لمشاعر وانفعالات تقع داخل الذات، تتدفق منها كما يتدفق النبع، وتشع عنها كما يشع الضوء من داخل جسم المصباح".
غير أن هذا التواتر في الخطاب النقدي بصورة عامة لا يعني التطابق في دلالته بين الخطابات. فالكلاسيكية تعمله للدلالة على انعكاس العالم الخارجي، في حين أن الرومانسية تريد به تمثيل الشعور والأحاسيس. وكلهم يتفقون في فهم العمل الأدبي بوصفه صورة لاحقة لأصل سابق عليه ومغاير.
ومن خلال استقصاء تشبيه الأدب بالمرآة في دراسة طه حسين للمتنبي، وجدناه يزاوج بين المعنين، فمرة يعكس شعره العالم الخاجري ومرة يعكس عوالمه الشعورية والعاطفية. هذا التزاوج يفسر بأن طه حسين كان يجاوز في خطابه النقدي بين نظريات متعددة منها ما يتصل بالكلاسيكية، ومنها ما تصل بنظرية التعبير الرومانسية.
وهذا التجاوز قد عمل فيه المحصول الفكري المتنوع لديه، إذ كان يسعى جاهدا إلى التوفيق بين مجموعة من التصورات حول الأدب منها ما هو اجتماعي تاريخي (تين) ومنها ما هو نفسي سيرى (بوف) ومنها ما هو ذوقي (لانسون). فقد كان يسعى إلى تسييج الظاهرة الأدبية بهذا المحصول الفكري المتعدد والمختلف، غير أن هذه الأدوات ظلت تفسر الأدب من خارج الأدب، وقد يكون هذا الفهم الخارجي وراء سكه في مصداقية النظرية المرآوية، وعدم قدرته على النفاذ إلى عمق العملية الإبداعية المعقدة. يقول في نهاية دراسته عن المتنبي : " ... إن شعر المتنبي لا يصور المتنبي، وإن شعر الشعر أولا يصور الشعراء تصويرا كاملا صادق يمكننا من أن نأخذهم منه أخذا مهما نبحث ومهما نجد في التحقيق، وما أريد أن أطيل الاستدلال على ذلك... وإنما أريد أن الفتك إلى شيء يسير وهو أن ديوان المتنبي أن صور شيئا فإنما يصور لحظات من حياة المتنبي، لا أكثر ولا أقل، كما أن هذا الكتاب الذي بين يديك أن صور شيئا فغنما يصور لحظات من حياتي أنا لا اكثر ولا اقل. فكما لا تستطيع أن تزعم انك تستخلص من هذا الكتاب صورة صادقة كي تطابق الأصل وتوافقه بل لا تستطيع أن تزعم أنك قادر على أن تستخرج من كتبي كلما صورة صادقة لي تطابق الأصل وتوفقه، فأنت كذلك عاجز عن أن تخرج من ديوان المتنبي صورة صادقة تلائم حياة المتنبي كما كانت في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.
لنتأمل هذا الحكم الذي انتظر طه حسين طويلا لكي يصدره فهو قد انتهى إلى التشكك في إحدى الدعائم المؤسسة لخطابه النقدي، فهل نعتبر هذا التشكيك ارتداءا في مشروعه النقدي اسم هو امتداد وتطوير لآلياته النقدية ؟
فمن دون شك فهذا الحكم ينسف الفرضية التي انطلق منها طه حسين للقيام بالعملية التاريخية للمتنبي من خلال شعره فمادام الديوان لا يعكس صورة صادقة عن الشاعر، فكيف يمكن أن نؤرخ له من خلال شعره ؟ غذ ستكون علته التاريخ مستحيلة مادامت القراءة لا تصور حياة الشاعر وإنما تصور تحولات وكي الناقد، فالقراءة من هذه الزاوية تصور الناقد ولا تصور الشاعر " إن نقد الناقد إنما يصور لحظات من حياته قد شغل فيها بلحظات من حياة الشاعر أو الأديب الذي عني بدرسه".
لقد أحس طه حسين بأن الأدب لا يعكس الأديب بصفة مطلقة، وإنما يعكس لحظات من حياتنا، وإن القراءة النقدية لا تستطيع أن تصور لنا الأديب كما كان وإنما تصور لحظات الوعي لدى الناقد، هذا التصور يمكن اعتباره تطور في المشروع النقدي لديه، إذ يقربه من المفهوم الحديث للقراءة كما استقر عند أصحاب نظرية التلقي الأدبي، التي ترى أن التاريخ الأدبي يجب أن ينصب على تاريخ القراءات والتمثيلات حول النص الأدبي.
فلو أن طه حسين اهنتم بهذا الجانب لعد رائد في تجديد النظر في عملية التاريخ الأدبي، لكن السياق الثقافي المهيمن في مرحلته كان وراء فهمه للتاريخ الأدبي باعتباره تتبعا لحياة الأديب من خلال شعره وليس من خلال مجموع قراءاته. ويعود السبب في ذلك إلى الفلسفة التي هيمنت في مرحلة النصف الأول من القرن العشرين حيث سادت الوضعية، الشيء الكلات على البحث عن العلل والأسباب الخارجية للظواهر، في حين أن الفلسفة الظاهر التي رفدت التصورات الحديثة في القراءة لم يكن لها اثر على مرحلة طه حسين، لذلك انحصر اهتمام النقاد في هذه المرحلة بالبحث عن الأسباب والعلل الخارجية