بقلم د. جمعة بن علي الخولي
"...حدث في العام الخامس من الهجرة أن مر المسلمون بظروف قاسية عندما تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت للقضاء عليهم داخل المدينة، وأحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل..."
بالنسبة لمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة. لا نريد أن نتعجل الحكم ونقول إنه عليه الصلاة والسلام عالج الأمر بالعلاج الوحيد الذي لا ينفع غيره، أو حل عقدته بالسلاح الذي يناسبه.. لا نريد أن نتعجل الحكم بذلك قبل أن نقف على حيثياته وظروفه.. معروف أنه بمجرد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة عقد بينه وبين اليهود الموجودين بها معاهدة رائدة بمثابة أقدم دستور مسجل في العالم[1].
كان من بنود هذه المعاهدة: أ- التزام كل من المسلمين واليهود بالمعايشة السلمية فيما بينهما وعدم اعتداء أي فريق منهما على الآخر في الداخل[2].
ب- تعهد كل من الطرفين بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي وعلى اليهود أن يتفقوا مع المؤمنين ما داموا محاربين[3].
وحدث في العام الخامس من الهجرة أن مر المسلمون بظروف قاسية عندما تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت للقضاء عليهم داخل المدينة، وأحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل[4] من مشركي قريش وقبائل غطفان وأشجع وأسد وفزارة وبني سليم على حين لم يزد عدد المسلمين على ثلاثة آلاف مقاتل[5]، وكان المتوقع أن ينضم يهود بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد القوات الزاحفة على المدينة بناء على نصوص المعاهدة المبرمة بين الفريقين..
لكن الذي حدث هو عكس هذا، فقد فوجئ المسلمون ببني قريظة يخونهم في أخطر أوقات محنتهم ولم يرعوا للجوار حقاً، ولا للعهود حرمة، ولقد كانوا يسعون من وراء انضمامهم هذا إلى صفوف الأحزاب التعجيل بسحق المسلمين والقضاء عليهم قضاء تاماً. ولقد أحدث نقض بني قريظة لعهدهم مع المسلمين وإعلانهم الانضمام إلى صفوف الغزاة فزعاً شديداً في صفوف المسلمين لأنهم ما كانوا يتوقعون أن يحدث هذا في مثل تلك الظروف، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص أول الأمر على كتمان الخبر على المسلمين لمـا كان يخشى من وقعه على نفوسهم.
وبمجرد أن انتهى إلى سمعه النبأ أرسل وفداً مكوناً من سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير ليذكروا القوم بما بينهم وبين المسلمين من عهود، ويحذروهم مغبة ما هم مقدمون عليه، وأوصاهم قائلا: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فألحنوا لي لحناً أعرفه. أي ألمحوا لي في الكلام تلميحاً دون تصريح، حتى لا يفت ذلك في عضد الناس، وأما إن كانوا على الوفاء بيننا وبينهم فاجهروا به للناس.." فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبينه، فرجع الوفد وأخبر رسول الله تلميحاً لا تصريحاً. بأن قالوا له عضل والقارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله أكبر، أبشروا يا معاشر المسلمين[6].
وهكذا ركب القوم رؤوسهم، وقرروا الانضمام الفعلي للغزاة، وأخذوا يمدونهم بالمال والعتاد.. وكانت خيانتهم الأثيمة تلك بمثابة طعنة للمسلمين من الخلف أشق على نفوسهم من هجوم الأحزاب من خارج المدينة، لأنهم ما كانوا يظنون أن يأتيهم الروع من مأمنهم الحصين، وعند ذلك عظم البلاء، واشتد الخوف. وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، وظهر النفاق من بعض المنافقين يفتون بذلك في عضد المسلمين ويرجفون به في المدينة، حتى أن أحدهم ليقول كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الغائط[7].
هكذا كان الوضع إبان معركة الأحزاب حتى لتصور السيدة أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظروف المسلمين وقتئذ بقولهـا : "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد فيها قتال وخوف، شهدت المريسيع، وخيبر، وكتاب الحديبية، وفي الفتح، وحنين، لم يكن ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري. فالمدينة تحرس حتى الصباح تسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفاً[8]، لكن عناية الله تدخلت لنصرة الإيمان وأهله وهزيمة الشرك وحزبه، وشاء الله أن يندحر ذلك التحالف الوثني اليهودي { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } (الأحزاب الآية 25).
وبعد أن ولى المشركون وحلفاؤهم الأدبار، يحملون معهم كل معاني الإخفاق رجع المسلمون إلى منازلهم بالمدينة يغسلون أنفسهم من وعثاء الجهاد والتعب ويلتقطون أنفاسهم بعد قلق نفسي بالغ دام شهرا كاملا.. ويبدو أن البعض ظن أن الموضوع انتهى إلى ذلك الحد لكن أيترك الناكثون للعهود دون محاسبة وتأديب.. ذلك ما لا يكون.. وتأباه العدالة الإلهية، ولذلك كان عقابها عاجلاً، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء المرابطة في غزوة الأحزاب في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدى له جبريل عليه السلام فقال: "أوضعت السلاح يا رسول الله، قال: نعم. قال: ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا أوان رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم[9]، فنادى عليه الصلاة والسلام في المسلمين "ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فسار الناس فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم[1] .. وتبعهم عليه الصلاة والسلام بعد أن استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وحاصر القوم شهراً أو خمسة وعشرين يوماً[11] ..
ولمـا طال عليهم الحصار.. عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركهم ليخرجوا إلى (أذرعات).. بالشام تاركين وراءهم ما يملكون، ورفض عليه الصلاة والسلام إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط واستسلم يهود بني قريظة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوكل عليه الصلاة والسلام الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ أحد رؤساء الأوس[12].
وفي اختيار سعد دلالة على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد نظره، وإدراكه لنفسيات هؤلاء القوم، لأن سعدا كان حليف بني قريظة في الجاهلية، وقد ارتاح اليهود لهذا الاختيار، وظنوا أن الرجل قد يحسن إليهم في حكمه، لكن سعداً نظر إلى الموقف من جميع جوانبه. وقدره تقدير من عاش أحداثه وظروفه. وشاهد كروبه ومآزقه وعرف النذر المستطيرة التي تراءت في الأفق فأوشكت أن تطيح بالعصبة المؤمنة لولا عناية الله عز وجل التي أنقذت الموقف..
وسعد هو نفسه الذي شفع لديهم بادئ ذي بدء ليرجعوا عن غدرهم وغيهم، لكن القوم مضوا في عنادهم لا يقدرون للنتائج عاقبة، ولا يراعون الله في حلف ولا ميثاق، ولذلك لما كلم في شأنهم أكثر من مرة قال رضي الله عنه "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم"[13].
وبعد أن أخذ رضي الله عنه المواثيق على الطرفين أن يرضى كل منهما بحكمه[14] أمر بني قريظة أن ينزلوا من حصونهم وأن يضعوا السلاح ففعلوا، ثم قال: "إني أحكم أن تقتل مقاتليهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة[15]، أي سموات.. وأمر عليه الصلاة والسلام بتنفيذ الحكم فسيقوا إلى خنادق في المدينة، فقتل رجالهم وسبي نساؤهم وذرا ريهم ومن لم ينبت من أولادهم ولاقى بنو قريظة أسوأ مصير على أفظع خيانة.. وهذا مصداق قول الله عز وجل: { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } (الأحزاب الآية 26. 27)..
وهنا يحلو للبعض أن يتقولوا على الإسلام. وأن يتطاولوا على تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لبني قريظة ويعتبروا أن الإعدام الجماعي الذي تم لهؤلاء الناس يتسم بالوحشة والقسوة، وأنه كان من الممكن أن يعاقبوا بأي عقاب آخر كالإجلاء أو النفي..
ونقول لهؤلاء:
أولاً: ماذا لو أن نتيجة غزوة الأحزاب تمت حسبما كان يخطط لها بنو قريظة وأحزابهم، ألم تكن هي الإبادة التامة للمسلمين أجمعين.
على أن اليهود لم يقدِموا على هذا العمل الخسيس إلا بعد أن تكون لديهم ما يشبه اليقين بأنهم- بمساعدة المشركين- سوف يقومون بتدمير الكيان الإسلامي تدميراً كاملاً، واستئصال شأفة المسلمين استئصالاً كلياً، ولهذا لم يترددوا في الغدر بحلفائهم المسلمين وعلى تلك الصورة البشعة[16] .
ولقد كانوا حريصين الحرص كله على المصير إلى هذه النتيجة. حتى لقد طلبوا من الأحزاب والمشركين أن يسلموا إليهم سبعين شاباً من أبنائهم رهائن عندهم ليضمنوا أن جيوش الأحزاب لن تنسحب من منطقة المدينة إلا بعد أن تفرغ من المسلمين وتقضي عليهم قضاء تاماً[17]..
على أن اليهود ترددوا في الاشتراك مع صفوف المشركين في بداية الأمر وأخذ كعب بن أسد القرظي يقول لحيي بن أخطب الذي جاءه يغريه بالانضمام إليهم أخذ يقول له: "إنك امرؤ مشئوم وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه[18] لكنهم لما تلقوا تأكيدات تفيد أن وضع المسلمين يائس، وأنهم لن يصمدوا طويلاً أمام تلك الأعداد الضخمة سارعوا بالانضمام إليهم، فاليهود - لا قدر الله- لو أمكنهم القدر من رقاب المسلمين ما ترددوا لحظة في القتل والإبادة تمشياً مع مزاجهم الدموي الذي لا يرى بأسا في قتال الآخرين واستحلال دمه { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (آل عمران الآية 75).
وفي سفر التثنية : "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً[19] أي تستأصلها استئصالاً.
ولذلك يعلق مولانا محمد علي، على هذا النص في كتابه ((حياة محمد ورسالته)) بقوله ((وهكذا حكم سعد وفقا للشريعة الموسوية بقتل ذكور بني قريظة وبسبي نسائهم وأطفالهم وبمصادرة ممتلكاتهم.. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية، فقد كانت على درجة الضبط للعقوبة التي كان اليهود ينزلونها- تبعاً لتشريع كتابهم- بالمغلوبين من أعدائهم، فأي اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو في الواقع انتقاد لا شعوري للشريعة الموسوية، وتسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف- في وضوح بالغ- أي قانون رفيق عطوف رحيم قدمه الإسلام إلى الناس"[20].
ثانياً: أن اليهود لم يلقوا من المسلمين طيلة الأعوام التي تلت المعاهدة إلا كل بر ووفاء، كما شهدوا أنفسهم بذلك، فعندما ذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي يغريه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً[21].. لكنه لم يزل به حتى أقنعه بالخيانة ونقض العهد.
ثالثاً: هذا الحكم وإن كان صادراً من سعد بن معاذ، إلا أنه بمثابة الحكم الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو أقره، وتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله وفعله مما هو معروف عند أهل الحديث.. ورسول الله لا ينطق عن الهوى، فكأن ذلك هو حكم الله والرسول في هؤلاء الخونة الغادرين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لسعد، لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة[22]، وفي رواية الطبري: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله[23]..
ثم أليس جبريل عليه السلام هو الذي وقف على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يغسل رأسه إبان مرجعه من غزوة الأحزاب ويأمره بالمسير إلى بني قريظة ويقول له إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل أركانهم، وفي رواية: "قم فشد عليك سلاحك فو الله لأدقنهم كدق البيض على الصفا[24]..
فعلام يدل هذا إلا أن يكون الهلاك التام والعقاب الصارم من رب العالمين لكل مجرم خائن. رابعاً: أن قانون أي دولة الآن يحكم بالإعدام على من يخون وطنه ويقيم اتصالات مع العدو أو يتجسس لحسابه، ويقول أحد الكتاب المعاصرين، لو درس الذين يطعنون في حكم سعد على بني قريظة القوانين المعاصرة دراسة نافذة وطبقوها على قضية بني قريظة لرأوا أن قوانين القرن العشرين لا تختلف في شيء عما أصدره سعد بن معاذ، لقد كان بين الرسول وبين يهود بني قريظة معاهدة تحفظ حقوق الفريقين وتقضي على كل فريق أن ينصر الآخر إذا واجهه خطر في حرب، ولكن اليهود تآمروا فانضموا إلى أعدائه وأوقعوه بين شقي الرحى في المدينة مصطليا بنار أعدائه المشركين من جهة واعتداء حلفائه اليهود في ساعته العسرة من جهة ثانية فاقترفوا بذلك الغدر ثلاث جرائم :
1- رفع السلاح ضد سلطان المدينة مع الأجنبي المعتدي.
2- دس الدسائس لدى العدو ضد المسلمين.
3- تسهيل دخول العدو للبلاد.
وقوانين العقوبات العصرية تجعل الإعدام عقوبة كل جريمة من الجرائم الثلاث[25].
خامسا: قد يقال: كان من الممكن أن يعامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة كما يعامل القائد المنتصر رجال جيش عدوه الذي انهزم أَمامه واستسلم، أو يعاملهم كما عامل يهود بني النضير وبني قينقاع.. والجواب على ذلك أن بني قريظة لم يكونوا أسرى حرب حتى يميل بهم إلى الشفقة، ولم يكونوا في حالة حرب مع المسلمين، وإنما كانوا جيرانا متحالفين يشكلون مع المسلمين وحدة وطنية ملزمة بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي عدوان، لكنهم ظهروا أخطر من الأعداء، وشراً منهم، إذ يبيتون لأناس يأمنونهم ويخصونهم بحقوق الجار، وواجبات الذمام، فكانوا بمثابة الخائن المتآمر المتواطئ مع العدو على أمته ووطنه في حالة الحرب القائمة وهذه خيانة عظمى ليس لها في جميع الشرائع إلا الإعدام السريع.. وموقفهم هنا يختلف اختلافا واضحا عن موقف بني قينقاع وبني النضير، فالأولون قد أبدوا البغضاء من أفواههم وأشاعوا الرعب والشكوك ورأوا في الدعاية المغرضة سلاحا لا يفل..
وبنوا النضير ائتمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحالفوا مع بعض المنافقين على المناجزة دون أن تتيح لهم الفرصة طريقا يصلون منه إلى التنفيذ، وهؤلاء وأولئك أَهون خطبا من الذين سلوا السيوف ووقفوا في صفوف العدو وأوقعوا الهلع في قلوب يحيط بها الروع من كل ناحية، فتعادل الكفتين بينهما طيش لا يقره إنصاف، وقد جلا بنو قينقاع وبنو النضير عن المدينة، فكانوا مثار القلق والفتنة ومبعث الضيق للمسلمين فهم الذين حزبوا الأحزاب وجمعوا القبائل مع المشركين ليوم الخندق فأعطوا بمؤامراتهم المزعجة محمداً درسا حاسما يحتم استئصال شأفتهم، وتتبع أفاعيهم في كل مكمن، ليطفئ لهيبا يستعر إذا هبت عليه الريح[26].
فعلى الذين يستبشعون الحكم على بني قريظة، ويصفونه بأنه كان قاسيا شديدا، عليهم أن يحيطوا علما بجوانب الموضوع وظروف القضية ليدركوا أن اليهود هم الذين جروا الوبال على أَنفسهم (وعلى نفسها جنت براقش) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
----------
[1] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة د/ محمد حميد الله ط ثالثة سنة 1389.
[2] سيرة ابن هشام جـ1/51 ط ثانية سنة 1375.
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق جـ2/217 ط ثانية.
[5] السيرة لابن هشام جـ2/22 ط ثانية.
[6] السيرة النبوية لابن هشام جـ 2/222 ط ثانية.
[7] المرجع السابق. نفس الصحيفة.
[8] في ظلال القرآن جـ21/548 ط سابعة سنة 1391هـ.
[9] السيرة لابن هشام جـ2/232 ط ثانية.
[10] صحيح البخاري، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب.
[11] تاريخ الرسل والملوك للطبري جـ2/583 والسيرة لابن هشام جـ2/234.
[12] تاريخ الرسل والملوك جـ2/586.
[13] المرجع السابق 587.
[14] تاريخ الرسل والملوك جـ2/587.
[15] الطبقات الكبرى جـ2/75 ط بيروت 1376.
[16] غزوة بني قريظة – محمد أحمد باشميل – 243.
[17] السيرة الحلبية جـ2/347 ط التجارية سنة 1382.
[18] عيون الأخبار لابن سيد الناس جـ2/59.
[19] سفر التثنية – الإصحاح العشرون 1: .
[20] حياة محمد ورسالته ص 175 نقلا عن غزوة بني قريظة / محمد أحمد باشميل 179.
[21] البداية والنهاية 4/13 ط 1966.
[22] السيرة لابن هشام جـ 2/24 ط ثانية.
[23] تاريخ الرسل والملوك جـ 2/587.
[24] عيون الأثر لابن سيد الناس جـ 2/68 ط دار المعرفة بلبنان.
[25] غزوة بني قريظة – محمد أحمد باشميل نقلا من مقال للدكتور محمد رجب البيومي بمجلة الحج العدد 12 السنة 88.
[26] المرجع السابق – 274.
عن موقع القلم